فصل: الآية رقم ‏(‏ 99 ‏:‏ 101 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 65 ‏:‏ 66 ‏)‏

‏{‏قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى، قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا موسى‏{‏ يريد السحرة‏.‏ ‏{‏إما أن تلقي‏{‏ عصاك من يدك ‏{‏وإما أن نكون أول من ألقى‏{‏ تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم‏.‏ ‏{‏قال بل ألقوا فإذا حبالهم‏{‏ في الكلام حذف، أي فألقوا؛ دل عليه المعنى‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏وعصيهم‏{‏ بضم العين‏.‏ قال هارون القارئ‏:‏ لغة بني تميم ‏{‏وعصيتم‏{‏ وبها يأخذ الحسن‏.‏ الباقون بالكسر اتباعا لكسرة الصاد‏.‏ ونحوه دلي وقسي وقسي‏.‏ ‏{‏يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏{‏ وقرأ ابن عباس وأبو حيوة وابن ذكوان وروح عن يعقوب ‏{‏تخيل‏{‏ بالتاء؛ وردوه إلى العصي والحبال إذ هي مؤنثة‏.‏ وذلك أنهم لطخوا العصي بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتهشت واهتزت‏.‏ قال الكلبي‏:‏ خيل إلى موسى أن الأرض حيات وأنها تسعى على بطنها‏.‏ وقرئ ‏{‏تخيل‏{‏ بمعنى تتخيل وطريقه طريق ‏{‏تخيل‏{‏ ومن قرأ ‏{‏يخيل‏{‏ بالياء رده إلى الكيد‏.‏ وقرئ ‏{‏نخيل‏{‏ بالنون على أن الله هو المخيل للمحنة والابتلاء‏.‏ وقيل‏:‏ الفاعل ‏{‏أنها تسعى‏{‏ فـ ‏{‏أن‏{‏ في موضع رفع؛ أي يخيل إليه سعيها؛ قال الزجاج‏.‏ وزعم الفراء أن موضعها موضع نصب؛ أي بأنها ثم حذف الباء‏.‏ والمعنى في الوجه الأول‏:‏ تشبه إليه من سحرهم وكيدهم حتى ظن أنها تسعى‏.‏ وقال الزجاج ومن قرأ بالتاء جعل ‏{‏أن‏{‏ في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي، قال‏:‏ ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من الضمير في ‏{‏تخيل‏{‏ وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه بدل اشتمال‏.‏ و‏{‏تسعى‏{‏ معناه تمشي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 67 ‏:‏ 68 ‏)‏

‏{‏فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأوجس في نفسه خيفة موسى‏{‏ أي أضمر‏.‏ وقيل‏:‏ وجد‏.‏ وقيل‏:‏ أحس‏.‏ أي من الحيات وذلك على ما يعرض من طباع البشر على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه‏.‏ وقيل‏:‏ خاف حين أبطأ عليه الوحي بإلقاء العصا أن يفترق الناس قبل ذلك فيفتتنوا‏.‏ وقال بعض أهل الحقائق‏:‏ إن كان السبب أن موسى عليه السلام لما التقى بالسحرة وقال لهم‏{‏ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب‏{‏ التفت فإذا جبريل على يمينه فقال له يا موسى ترفق بأولياء الله‏.‏ فقال موسى‏:‏ يا جبريل هؤلاء سحرة جاؤوا بسحر عظيم ليبطلوا المعجزة، وينصروا دين فرعون، ويردوا دين الله، تقول‏:‏ ترفق بأولياء الله‏!‏ فقال جبريل‏:‏ هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك، وبعد صلاة العصر في الجنة‏.‏ فلما قال له ذلك، أوجس موسى وخطر أن ما يدريني ما علم الله في، فلعلي أكون الآن في حالة، وعلم الله في على خلافها كما كان هؤلاء‏.‏ فلما علم الله ما في قلبه أوحى الله إليه ‏{‏لا تخف إنك أنت الأعلى‏{‏ أي الغالب في الدنيا، وفي الدرجات العلا في الجنة؛ للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به‏.‏ وأصل ‏{‏خيفة‏{‏ خوفة الواو ياء لانكسار الخاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى‏}‏

قوله تعالى‏{‏وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا‏{‏ ولم يقل وألق عصاك، فجائز أن يكون تصغيرا لها؛ أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها‏.‏ وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكثيرة الكبيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها؛ فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها‏.‏ و‏{‏تلقف‏{‏ بالجزم جواب الأمر؛ كأنه قال‏:‏ إن تلقه تتلقف؛ أي تأخذ وتبتلع‏.‏ وقرأ السلمي وحفص ‏{‏تلقف‏{‏ ساكنة اللام من لقف يلقف لقفا‏.‏ وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة الشامي ويحيى بن الحرث ‏{‏تلقف‏{‏ بحذف التاء ورفع الفاء، على معنى فإنها تتلقف‏.‏ والخطاب لموسى‏.‏ وقيل‏:‏ للعصا‏.‏ واللقف الأخذ بسرعة، يقال‏:‏ لقفت الشيء ‏{‏بالكسر‏{‏ ألقفه لقفا، وتلقفته أيضا أي تناولته بسرعة‏.‏ عن يعقوب‏:‏ يقال رجل لقف ثقف أي خفيف حاذف‏.‏ واللقف ‏{‏بالتحريك‏{‏ سقوط الحائط‏.‏ ولقد لقف الحوض لقفا أي تهور من أسفله وأتسع‏.‏ وتلقف وتلقم وتلهم بمعنى‏.‏ لقمت اللقمة ‏{‏بالكسر‏{‏ لقما، وتلقمتها إذا ابتلعتها في مهلة وكذلك لهمه ‏{‏بالكسر‏{‏ إذا ابتلعه‏.‏ ‏{‏ما صنعوا‏{‏ أي الذي صنعوه‏.‏ وكذا ‏{‏إنما صنعوا‏{‏ أي إن الذي صنعوه ‏{‏كيد سحر‏{‏ بالرفع ‏{‏سِحْر‏{‏ بكسر السين وإسكان الحاء؛ وهى قراءة الكوفيين إلا عاصما‏.‏ وفيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون الكيد مضافا إلى السحر على الأتباع من غير تقدير حذف‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون في الكلام حذف أي كيد ذي سحر‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏كيد‏{‏ بالنصب بوقوع الصنع عليه و‏{‏ما‏{‏ كافة ولا تضمر هاء ‏{‏ساحر‏{‏ بالإضافة‏.‏ والكيد في الحقيقة على هذه القراءة مضاف للساحر لا للسحر‏.‏ ويجوز فتح ‏{‏أن‏{‏ على معنى لأن ما صنعوا كيد ساحر‏.‏ ‏{‏ولا يفلح الساحر حيث أتى‏{‏ أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ حيث احتال‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 70 ‏:‏ 71 ‏)‏

‏{‏فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى‏}‏

قوله تعالى‏{‏فألقي السحرة سجدا‏{‏ لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا؛ فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي؛ وكانت حمل ثلثمائة بعير ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى‏.‏ ‏{‏قالوا آمنا برب هارون وموسى‏{‏ أي به؛ يقال‏:‏ آمن له وآمن به؛ ومنه ‏{‏فآمن له لوط‏}‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏ وفي الأعراف‏.‏ ‏{‏قال آمنتم له قبل أن آذن لكم‏{‏ إنكار منه عليهم؛ أي تعديتم وفعلتم ما لم آمركم به‏.‏ ‏{‏إنه لكبيركم الذي علمكم السحر‏{‏ أي رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم لأنه أحذق به منكم‏.‏ وإنما أراد فرعون بقول هذا ليشبه على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته‏.‏ ‏{‏فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل‏{‏ أي على جذوع النخل‏.‏ قال سويد بن أبي كاهل‏:‏

هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا

فقطع وصلب حتى ماتوا رحمهم الله تعالى‏.‏ وقرأ ابن محيصن هنا وفي الأعراف ‏{‏فلأقطعن‏{‏ ‏{‏ولأصلبنكم‏{‏ بفتح الألف والتخفيف من قطع وصلب‏.‏ ‏{‏ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى‏{‏ يعني أنا أم رب موسى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 72 ‏:‏ 73 ‏)‏

‏{‏قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا‏{‏ يعني السحرة ‏{‏لن نؤثرك‏{‏ أي لن نختارك ‏{‏على ما جاءنا من البينات‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد من اليقين والعلم‏.‏ وقال عكرمة وغيره‏:‏ لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة؛ فلهذا قالوا ‏{‏لن نؤثرك‏{‏‏.‏ وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب، فقيل لها‏:‏ غلب موسى وهارون؛ فقالت‏:‏ آمنت برب موسى وهارون‏.‏ فأرسل إليها فرعون فقال‏:‏ انظروا أعظم صخرة فإن مضت على فولها فألقوها عليها؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسدها وليس في جسدها روح‏.‏ وقيل‏:‏ قال مقدم السحرة لمن يثق به لما رأى من عصا موسى ما رأى‏:‏ انظر إلى هذه الحية هل تخوفت فتكون جنيا أو لم تتخوف فهي من صنعة الصانع الذي لا يعزب عليه مصنوع؛ فقال‏:‏ ما تخوفت؛ فقال‏:‏ آمنت برب هارون وموسى‏.‏ ‏{‏والذي فطرنا‏{‏ قيل‏:‏ هو معطوف على ‏{‏ما جاءنا من البينات‏{‏ أي لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولا على الذي فطرنا أي خلقنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو قسم أي والله لن نؤثرك‏.‏ ‏{‏فاقض ما أنت قاض‏{‏ التقدير ما أنت قاضيه‏.‏ وليست ‏{‏ما‏{‏ ها هنا التي تكون مع الفعل بمنزلة المصدر؛ لأن تلك توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فاصنع ما أنت صانع‏.‏ وقيل‏:‏ فاحكم ما أنت حاكم؛ أي من القطع والصلب‏.‏ وحذفت الياء من قاض الوصل لسكونها وسكون التنوين‏.‏ واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد زالت علة الساكنين‏.‏ ‏{‏إنما تقضي هذه الحياة الدنيا‏{‏ أي إنما ينفذ أمرك فيها‏.‏ وهي منصوبة على الظرف، والمعنى‏:‏ إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا‏.‏ أو وقت هذه الحياة الدنيا، فتقدر حذف المفعول‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا، فتنتصب انتصاب المفعول و‏{‏ما‏{‏ كافة لإن‏.‏ وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ‏{‏ما‏{‏ بمعنى الذي وتحذف الهاء من تقضي ورفعت ‏{‏هذه الحياة الدنيا‏{‏‏.‏ ‏{‏إنا آمنا بربنا‏{‏ أي صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى‏.‏ ‏{‏ليغفر لنا خطايانا‏{‏ يريدون الشرك الذي كانوا عليه‏.‏ ‏{‏وما أكرهتنا عليه من السحر‏{‏ ‏{‏ما‏{‏ في موضع نصب معطوفة على الخطايا‏.‏ وقيل‏:‏ لا موضع لها وهى نافية؛ أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه‏.‏ النحاس‏:‏ والأول أولى‏.‏ المهدوي‏:‏ وفيه بعد؛ لقولهم‏{‏إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين‏{‏ وليس هذا بقول مكرهين؛ ولأن الإكراه ليس بذنب، وإن كان يجوز أن يكونوا أكرهوا على تعليمه صغارا‏.‏ قال الحسن‏:‏ كانوا يعلمون السحر أطفالا ثم عملوه مختارين بعد‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ما‏{‏ في موضع رفع بالابتداء ويضمر الخبر، والتقدير‏:‏ وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا‏.‏ و‏{‏من السحر‏{‏ على هذا القول والقول الأول يتعلق بـ ‏{‏أكرهتنا‏{‏‏.‏ وعلى أن ‏{‏ما‏{‏ نافية يتعلق بـ ‏{‏خطايانا‏{‏‏.‏ ‏{‏والله خير وأبقى‏{‏ أي ثوابه خير وأبقى فحذف المضاف؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ الله خير لنا منك وأبقى عذابا لنا من عذابك لنا‏.‏ وهو جواب قوله ‏{‏ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى‏{‏ وقيل‏:‏ الله خير لنا إن أطعناه، وأبقى عذابا منك إن عصيناه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 74 ‏:‏ 76 ‏)‏

‏{‏إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنه من يأت ربه مجرما‏{‏ قيل هو من قول السحرة لما آمنوا‏.‏ وقيل ابتداء كلام من الله عز وجل‏.‏ والكناية في ‏{‏إنه‏{‏ ترجع إلى الأمر والشأن‏.‏ ويجوز إن من يأت، ومنه قول الشاعر‏:‏

إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء

أراد إنه من يدخل؛ أي أن الأمر هذا؛ أن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة‏.‏ والمجرم الكافر‏.‏ وقيل‏:‏ الذي يقترف المعاصي ويكتسبها‏.‏ والأول أشبه؛ لقوله‏{‏فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا‏{‏ وهذه صفة الكافر المكذب الجاحد - على ما تقدم بيانه في سورة ‏{‏النساء‏{‏ وغيرها - فلا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

وقيل‏:‏ نفس الكافر معلقة في حنجرته أخبر الله تعالى عنه فلا يموت بفراقها، ولا يحيا باستقرارها‏.‏ ومعنى ‏{‏من يأت ربه مجرما‏{‏ من يأت موعد ربه‏.‏ ومعنى ‏{‏ومن يأته مؤمنا‏{‏ أي يمت عليه ويوافيه مصدقا به‏.‏ ‏{‏قد عمل‏{‏ أي وقد عمل ‏{‏الصالحات‏{‏ أي الطاعات وما أمر به ونهى عنه‏.‏ ‏{‏فأولئك لهم الدرجات العلا‏{‏ أي الرفيعة التي قصرت دونها الصفات‏.‏ ودل قوله‏{‏ومن يأته مؤمنا‏{‏ على أن المراد بالمجرم المشرك‏.‏

قوله تعالى‏{‏جنات عدن‏{‏ بيان للدرجات وبدل منها، والعدن الإقامة‏.‏ ‏{‏تجري من تحتها‏{‏ أي من تحت غرفها وسررها ‏{‏الأنهار‏{‏ من الخمر والعسل واللبن والماء‏.‏ ‏{‏خالدين فيها‏{‏ أي ماكثين دائمين‏.‏ ‏{‏وذلك جزاء من تزكى‏{‏ أي من تطهر من الكفر والمعاصي‏.‏ ومن قال هذا من قول السحرة قال‏:‏ لعل السحرة سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا؛ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 77 ‏:‏ 79 ‏)‏

‏{‏ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي‏{‏ تقدم‏.‏ ‏{‏فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا

أي يابسا لا طين فيه ولا ماء‏.‏ ‏{‏لا تخاف دركا ولا تخشى‏{‏ أي لحاقا من فرعون وجنوده‏.‏ ‏{‏ولا تخشى‏{‏ قال ابن جريج قال أصحاب موسى‏:‏ هذا فرعون قد أدركنا، وهذا البحر قد غشينا، فأنزل الله تعالى ‏{‏لا تخاف دركا ولا تخشى‏{‏ أي لا تخاف دركا من فرعون ولا تخشى غرقا من البحر أن يمسك إن غشيك‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏لا تخف‏{‏ على أنه جواب الأمر‏.‏ التقدير إن تضرب لهم طريقا في البحر لا تخف‏.‏ و‏{‏لا تخشى‏{‏ مستأنف على تقدير‏:‏ ولا أنت تخشى‏.‏ أو يكون مجزوما والألف مشبعة من فتحة؛ كقوله‏{‏فأضلونا السبيلا‏}‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏ أو يكون على حد قول الشاعر‏:‏

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا

على تقدير حذف الحركة كما تحذف حركة الصحيح‏.‏ وهذا مذهب الفراء‏.‏ وقال آخر‏:‏

هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وقال آخر

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

قال النحاس‏:‏ وهذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله عز وجل على الشذوذ من الشعر؛ وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا؛ لأن الياء والواو مخالفتان للألف؛ لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك، وللشاعر إذا اضطر أن يقدرهما متحركتين ثم تحذف الحركة للجزم، وهذا محال في الألف؛ والقراءة الأولى أبين لأن بعده ‏{‏ولا تخشى‏{‏ مجمع عليه بلا جزم؛ وفيها ثلاث تقديرات‏:‏ الأول أن يكون ‏{‏لا تخاف‏{‏ في موضع الحال من المخاطب، التقدير فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا غير خائف ولا خاش‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون في موضع النعت للطريق؛ لأنه معطوف على يبس الذي هو صفة، ويكون التقدير لا تخاف فيه؛ فحذف الراجع من الصفة‏.‏ والثالث‏:‏ أن يكون منقطعا خبر ابتداء محذوف تقديره وأنت لا تخاف

قوله تعالى‏{‏فأتبعهم فرعون بجنوده‏{‏ أي اتبعهم ومعه جنوده، وقرئ ‏{‏فاتَّبعهم‏{‏ بالتشديد فتكون الباء في ‏{‏بجنوده‏{‏ عدت الفعل إلى المفعول الثاني؛ لأن اتبع يتعدى إلى مفعول واحد‏.‏ أي تبعهم ليلحقهم بجنوده أي مع جنوده كما يقال‏:‏ ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه‏.‏ ومن قطع ‏{‏فأتبع‏{‏ يتعدى إلى مفعولين‏:‏ فيجوز أن تكون الباء زائدة، ويجوز أن يكون اقتصر على مفعول واحد‏.‏ يقال‏:‏ تبعه وأتبعه ولحقه وألحقه بمعنى واحد‏.‏ وقوله‏{‏بجنوده‏{‏ في موضع الحال؛ كأنه قال‏:‏ فأتبعهم سائقا جنوده‏.‏ ‏{‏فغشيهم من اليم ما غشيهم‏{‏ أي أصابهم من البحر ما غرقهم، وكرر على معنى التعظيم والمعرفة بالأمر‏.‏ ‏{‏وأضل فرعون قومه وما هدى‏{‏ أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خير ولا نجاة؛ لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه؛ لأن بين أيديهم البحر‏.‏ فلما ضرب موسى البحر بعصاه أنفلق منه اثنا عشر طريقا وبين الطرق الماء قائما كالجبال‏.‏ وفي سورة الشعراء ‏{‏فكان كل فرق كالطود العظيم‏{‏ أي الجبل الكبير؛ فأخذ كل سبط طريقا‏.‏ وأوحى الله إلى أطواد الماء أن تشكبي فصارت شبكات برى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض، وكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم‏.‏ وقيل إن قوله‏{‏وما هدى‏{‏ تأكيد لإضلاله إياهم‏.‏ وقيل هو جواب قول فرعون ‏{‏ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‏}‏غافر‏:‏ 29‏]‏ فكذبه الله تعالى‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏ وما هدى‏{‏ أي ما هدى نفسه بل أهلك نفسه وقومه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 80 ‏:‏ 82 ‏)

‏{‏يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى، وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم‏{‏ لما أنجاهم من فرعون قال لهم هذا ليشكروا‏.‏ ‏{‏وواعدناكم جانب الطور الأيمن‏{‏ ‏{‏جانب‏{‏ نصب على المفعول الثاني ‏{‏لواعدنا‏{‏ ولا يحسن أن ينتصب على الظرف؛ لأنه ظرف مكان غير مبهم‏.‏ وإنما تتعدى الأفعال والمصادر إلى ظروف المكان بغير حرف جر إذا كانت مبهمة‏.‏ قال مكي هذا أصل لا خلاف فيه؛ وتقدير الآية‏.‏ وواعدناكم إتيان جانب الطور؛ ثم حذف المضاف‏.‏ قال النحاس‏:‏ أي أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة، فالوعد كان لموسى ولكن خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏ووعدناكم‏{‏ بغير ألف واختاره أبو عبيد؛ لأن الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى خاصة، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين‏.‏ و‏{‏الأيمن‏{‏ نصب؛ لأنه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال، فإذا قيل‏:‏ خذ عن يمين الجبل فمعناه خذ علي يمينك من الجبل‏.‏ وكان الجبل على يمين موسى إذ أتاه‏.‏ ‏{‏ونزلنا عليكم المن والسلوى‏{‏ أي في التيه وقد تقدم القول فيه‏.‏ ‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم‏{‏ أي من لذيذ الرزق‏.‏ وقيل‏:‏ إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة‏.‏ ‏{‏ولا تطغوا فيه‏{‏ أي لا تحملنكم السعة والعافية أن تعصوا؛ لأن الطغيان التجاوز إلى ما لا يجوز‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ أي لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ أي ولا تستبدلوا بها شيئا أخر كما قال‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏}‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ وقيل‏:‏ لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليله؛ قال ابن عباس‏:‏ فيتدود عليه ما ادخروه؛ ولولا ذلك ما تدود طعام أبدا‏.‏ ‏{‏فيحل عليكم غضبي‏{‏ أي يجب وينزل، وهو منصوب بالفاء في جواب النهي من قوله‏{‏ولا تطغوا‏{‏‏.‏ فيحل عليكم غضبى قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي ‏{‏فيحُل‏{‏ بضم الحاء‏.‏ ‏{‏ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى‏{‏ قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي ‏{‏ومن يحلل‏{‏ بضم اللام الأولى‏.‏ والباقون بالكسر وهما لغتان‏.‏ وحكى أبو عبيده وغيره‏:‏ أنه يقال حل يحل إذا وجب وحل يحل إذا نزل‏.‏ وكذا قال الفراء‏:‏ الضم من الحلول بمعنى الوقوع والكسر من الوجوب‏.‏ والمعنيان متقاربان إلا أن الكسر أولى؛ لأنهم قد أجمعوا على قوله‏{‏ويحل عليه عذاب مقيم‏}‏هود‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وغضب الله عقابه ونقمته وعذابه‏.‏ ‏{‏فقد هوى‏{‏ قال الزجاج‏:‏ فقد هلك؛ أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار، من هوى يهوي هويا أي سقط من علو إلى سفل، وهوى فلان أي مات‏.‏ وذكر ابن المبارك‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن عياش قال حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شفي الأصبحي قال‏:‏ إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه؛ قال الله تعالى‏{‏سأرهقه صعودا‏}‏المدثر‏:‏ 17‏]‏ وإن في جهنم قصرا يقال له هوى يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله قال الله تعالى ‏{‏ومن يحلل عليه فقد هوى‏{‏ وذكر الحديث؛ وقد ذكرناه في كتاب ‏{‏التذكرة ‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏{‏ أي من الشرك‏.‏ ‏{‏وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى‏{‏ أي أقام علي إيمانه حتى مات عليه؛ قال سفيان الثوري وقتادة وغيرهما‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي لم يشك في إيمانه؛ ذكره الماوردي والمهدوي‏.‏ وقال سهل بن عبدالله التستري وابن عباس أيضا‏:‏ أقام على السنة والجماعة؛ ذكره الثعلبي‏.‏ وقال أنس‏:‏ أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المهدوي، وحكاه الماوردي عن الربيع بن أنس‏.‏ وقول خامس‏:‏ أصاب العمل؛ قال ابن زيد؛ وعنه أيضا تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل؛ ذكر الأول المهدوي، والثاني الثعلبي‏.‏ وقال الشعبي ومقاتل والكلبي‏:‏ علم أن ثوابا وعليه عقابا؛ وقاله الفراء‏:‏ وقول ثامن‏{‏ثم اهتدى‏{‏ في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ثابت البناني‏.‏ والقول الأول أحسن هذه الأقوال - إن شاء الله - وإليه يرجع سائرها‏.‏ قال وكيع عن سفيان‏:‏ كنا نسمع في قوله عز وجل‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏{‏ أي من الشرك ‏{‏وآمن‏{‏ أي بعد الشرك ‏{‏وعمل صالحا‏{‏ صلى وصام ‏{‏ثم اهتدى‏{‏ مات على ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 83 ‏:‏ 84 ‏)‏

‏{‏وما أعجلك عن قومك يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أعجلك عن قومك يا موسى‏{‏ أي ما حملك على أن تسبقهم‏.‏ قيل‏:‏ عنى بالقوم جميع بني إسرائيل؛ فعلى هذا قيل‏:‏ استخلف هارون على بني إسرائيل، وخرج معه بسبعين رجلا للميقات فقوله‏{‏قال هم أولاء على أثري‏{‏ ليس يريد أنهم يسيرون خلفه متوجهين إليه، بل أراد أنهم بالقرب مني ينتظرون عودي إليهم‏.‏ وقيل‏:‏ لا بل كان أمر هارون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به‏.‏ وقال قوم‏:‏ أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله‏.‏ وقيل‏:‏ لما وفد إلى طور سينا بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الأمر شق قميصه، ثم لم يصبر حتى خلفهم ومضى وحده؛ فلما وقف في مقامه قال الله تبارك وتعالى‏{‏ما أعجلك عن قومك يا موسى‏{‏ فبقي صلى الله عليه وسلم متحيرا عن الجواب وكنى عنه بقوله‏{‏هم أولاء على أثري‏{‏ وإنما سأله السبب الذي أعجله يقوله ‏{‏ما‏{‏ فأخبر عن مجيئهم بالأثر‏.‏ ‏{‏وعجلت إليك رب لترضى‏{‏ فكنى عن ذكر الشوق وصدقه إلى ابتغاء الرضا‏.‏ ذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله‏{‏وعجلت إليك رب لترضى‏{‏ قال‏:‏ شوقا‏.‏ وكانت عائشة رضي الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول‏:‏ هاتوا المجيد‏.‏ فتؤتى بالمصحف فتأخذه في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك؛ رواه سفيان عن معسر عائشة رضي الله عنها‏.‏ وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر ويقول‏{‏إنه حديث عهد بربي‏{‏ فهذا من الرسول صلى الله عليه وسلم وممن بعده من قبيل الشوق؛ ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه‏{‏طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق‏{‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان الله عالما ولكن قال ‏{‏وما أعجلك عن قومك‏{‏ رحمة لموسى، وإكراما له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة عليه؛ فقال مجيبا لربه‏{‏هم أولاء على أثري‏{‏‏.‏ قال أبو حاتم قال عيسى‏:‏ بنو تميم يقولون‏{‏هم أولى‏{‏ مقصورة مرسلة، وأهل الحجاز يقولون ‏{‏أولاء‏{‏ ممدودة‏.‏ وحكى الفراء ‏{‏هم أولاء على أثري‏{‏ وزعم أبو إسحاق الزجاج‏:‏ أن هذا لا وجه له‏.‏ قال النحاس وهو كما قال‏:‏ لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي‏.‏ ولا يخلو من إحدى جهتين‏:‏ إما أن يكون اسما مبهما فإضافته محال؛ وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضا؛ لأن ما بعده من تمامه وهو معرفة‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب ‏{‏على إثري‏{‏ بكسر الهمزة وإسكان الثاء وهو بمعنى أثر، لغتان‏.‏ ‏{‏وعجلت إليك رب لترضى‏{‏ أ عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني‏.‏ يقال‏:‏ رجل عجل وعجل وعجول وعجلان بين العجلة؛ والعجلة خلاف البطء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 85 ‏)‏

‏{‏قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك‏{‏ أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وأضلهم السامري‏{‏ أي دعاهم إلى الضلالة أو هو سببها‏.‏ وقيل‏:‏ فتناهم ألقيناهم في الفتنة‏:‏ أي زينا لهم عبادة العجل؛ ولهذا قال موسى‏{‏إن هي إلا فتنتك‏}‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان السامري من قوم يعبدون البقر، فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر‏.‏ وقيل‏:‏ كان رجلا من القبط، وكان جارا لموسى أمن به وخرج معه‏.‏ وقيل‏:‏ كان عظيما من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كان من أهل كرمان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 86 ‏:‏ 89 ‏)‏

‏{‏فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري، فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا‏{‏ حال وقد مضى في ‏{‏الأعراف‏{‏‏.‏ ‏{‏قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا‏{‏ وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه، في التوراة على لسان موسى؛ ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم‏.‏ وقيل‏:‏ وعدهم النصر والظفر‏.‏ وقيل‏:‏ وعده قوله‏{‏وإني لغفار لمن تاب وآمن‏{‏ الآية‏.‏ ‏{‏أفطال عليكم العهد‏{‏ أي أفنسيتم؛ كما قيل؛ والشيء قد ينسى لطول العهد‏.‏ ‏{‏أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم‏{‏ ‏{‏يحل‏{‏ أي يجب وينزل‏.‏ والغضب العقوبة والنقمة‏.‏ والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله بكم؛ لأن أحدا لا يطلب غضب الله، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب‏.‏ ‏{‏فأخلفتم موعدي‏{‏ لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور‏.‏ وقيل‏:‏ وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا‏.‏ ‏{‏قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا‏{‏ بفتح الميم، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر‏.‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ ومعناه بطاقتنا‏.‏ ابن زيد‏:‏ لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏بملكنا‏{‏ بكسر الميم‏.‏ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها اللغة العالية‏.‏ وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكا‏.‏ والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف؛ كأنه قال‏:‏ بملكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطأ‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏بملكنا‏{‏ بضم الميم والمعنى بسلطاننا‏.‏ أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك‏.‏ ثم قيل قوله‏{‏قالوا‏{‏ عام يراد به الخاص، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور‏{‏ما أخلفنا موعدك بملكنا‏{‏ وكانوا اثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولكنا حملنا‏{‏ بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة؛ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس‏.‏ الباقون بفتح الحرفين خفيفة‏.‏ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حلي القوم معهم وما حملوه كرها‏.‏ ‏{‏أوزارا‏{‏ أي أثقالا ‏{‏من زينة القوم‏{‏ أي من حليهم؛ وكانوا استعاره حين حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما أخذوه من آل فرعون، لما قذفهم البحر إلى الساحل‏.‏ وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما‏.‏ أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم، وأيضا فالأوزار هي الأثقال في اللغة‏.‏ ‏{‏فقذفناها فكذلك ألقى السامري‏{‏ أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلي فقذفناه في النار ليذوب، أي طرحناه فيها‏.‏ وقيل‏:‏ طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك‏.‏ ‏{‏فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار‏{‏ قال قتادة‏:‏ إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى‏:‏ إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي؛ فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام‏.‏ وقال معمر‏:‏ الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار‏.‏ والخوار صوت البقر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما انسكبت الحلي في النار، جاء السامري وقال لهارون‏:‏ يا نبي الله أؤلقي ما في يدي - وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي - فقذف التراب فيه، وقال‏:‏ كن عجلا جسدا له خوار؛ فكان كما قال للبلاء والفتنة؛ فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها‏.‏ وقيل‏:‏ خواره وصوته كان بالريح؛ لأنه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة‏.‏ وهذا قول مجاهد‏.‏ وعلى القول الأول كان عجلا من لحم ودم، وهو قول الحسن وقتادة والسدي‏.‏ وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ مر هارون بالسامري وهو يصنع العجل فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ ينفع ولا يضر؛ فقال‏:‏ اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه؛ فقال‏:‏ اللهم إني أسألك أن يخور‏.‏ وكان إذا خار سجدوا، وكان الخوار من دعوة هارون‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خار كما يخور الحي من العجول‏.‏ وروى أن موسى قال‏:‏ يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم، فمن جعل الجسد والخوار‏؟‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏ أنا‏.‏ قال موسى صلى الله عليه وسلم‏:‏ وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك‏.‏ قال‏:‏ صدقت يا حكيم الحكماء‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏فقالوا هذا إلهكم وإله موسى‏{‏ أي قال السامري ومن تبعه وكانوا ميالين إلى الشبيه؛ إذا قالوا ‏{‏اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‏{‏‏.‏ ‏{‏الأعراف 138‏{‏ ‏{‏فنسي‏{‏ أي فضل موسى ‏[‏وذهب‏]‏ بطلبه فلم يعلم مكانه، وأخطأ الطريق إلى ربه‏.‏ وقيل معناه‏:‏ فتركه موسى هنا وخرج يطلبه‏.‏ أي ترك موسى إلهه هنا‏.‏ وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ أي فنسي موسى أن يذكر لكم أنه إلهه‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب خبر عن السامري‏.‏ أي ترك السامري ما أمره به موسى من الإيمان فضل؛ قاله ابن العربي‏.‏ ‏{‏أفلا يرون‏{‏ فقال الله تعالى محتجا عليهم‏{‏أفلا يرون‏{‏ أي يعتبرون ويتفكرون في ‏{‏أنـ‏{‏ ـه ‏{‏لا يرجع إليهم قولا‏{‏ أي لا يكلمهم‏.‏ وقيل‏:‏ لا يعود إلى الخوار والصوت‏.‏ ‏{‏ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا‏{‏ فكيف يكون إلها‏؟‏ والذي يعبده موسى صلى الله عليه وسلم وينفع ويثيب ويعطي ويمنع‏.‏ ‏{‏أن لا يرجع‏{‏ تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع الفعل فخففت ‏{‏أن‏{‏ وحذف الضمير‏.‏ وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن‏.‏ قال

في فتية من سيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل

وقد يحذف مع التشديد؛ قال

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر

أي ولكنك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 90 ‏:‏ 93 ‏)‏

‏{‏ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن أفعصيت أمري‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد قال لهم هارون من قبل‏{‏ أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم ‏{‏يا قوم إنما فتنتم به‏{‏ أي ابتليتم وأضللتم به؛ أي بالعجل‏.‏ ‏{‏وإن ربكم الرحمن‏{‏ لا العجل‏.‏ ‏{‏فاتبعوني‏{‏ في عبادته‏.‏ ‏{‏وأطيعوا أمري‏{‏ لا أمر السامري‏.‏ أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل‏.‏ فعصوه و‏{‏قالوا لن نبرح عليه عاكفين‏{‏ أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل‏.‏ ‏{‏حتى يرجع إلينا موسى‏{‏ فينظر هل يعبده كما عبدناه؛ فتوهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال لسبعين معه هذا صوت الفتنة؛ فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و‏{‏قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا‏{‏ أي أخطؤوا الطريق وكفروا‏.‏ ‏{‏ألا تتبعن‏{‏ ‏{‏لا‏{‏ زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي‏.‏ وقيل‏:‏ ما منعك عن اتباعي في الإنكار عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على كفرهم‏.‏ وقيل‏:‏ ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا‏.‏ ‏{‏أفعصيت أمري‏{‏ يريد أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله تعالى عصيان منك لي؛ قال ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا‏.‏ ومعنى‏{‏أفعصيت أمري‏{‏ قيل‏:‏ إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه ‏{‏وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏الأعراف 142‏]‏، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره‏.‏

 مسألة‏:‏

وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله‏:‏ ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية‏؟‏ وأعلم - حرس الله مدته - أنه اجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه‏.‏ هل الحضور معهم جائز أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه‏:‏

يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل

واعمل لنفسك صالحا ما دام ينفعك العمل

أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل

وفي مثل هذا نحوه‏.‏ الجواب - يرحمك الله - مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل؛ وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى؛ وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار؛ فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم عن الحضور في المساجد وغيرها؛ ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم؛ هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 94 ‏:‏ 96 ‏)‏

‏{‏قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، قال فما خطبك يا سامري، قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي‏{‏ ابن عباس‏:‏ أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره؛ لأن الغيرة في الله ملكته؛ أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف أو عقوبة‏.‏ وقد وقيل‏:‏ إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غيرا ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه‏.‏ وقد مضى هذا في ‏{‏الأعراف‏{‏ مستوفى‏.‏ ‏{‏إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل‏{‏ أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم فلو خرجت لا تبعني قوم ويتخلف مع العجل قوم؛ وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء؛ وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك‏.‏ وهذا جواب هارون لموسى السلام عن قوله ‏{‏أفعصيت أمري‏{‏ وفي الأعراف ‏{‏إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء‏}‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ لأنك أمرتني أن أكون معهم‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ومعنى ‏{‏ولم ترقب قولي‏{‏ لم تعمل بوصيتي في حفظه؛ قاله مقاتل‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ لم تنظر عهدي وقدومي‏.‏ فتركه موسى ثم أقبل على السامري فـ ‏{‏قال فما خطبك يا سامري‏{‏ أي، ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت‏؟‏ قال قتادة‏:‏ كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم ‏{‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‏}‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ فاغتنمها السامري وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل‏.‏ فـ ‏{‏قال بصرت بما لم يبصروا به‏{‏ ‏{‏قال‏{‏ السامري مجيبا لموسى ‏{‏قال بصرت بما لم يبصروا به‏{‏ بعني‏:‏ رأيت ما لم يروا؛ رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم؛ ودم فلما سألوك أن تجحل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ لما نزل جبريل ليصعد بموسى عليه السلام، إلى السماء، وأبصره السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس‏.‏ وقيل قال السامري رأيت جبريل على الفرس وهى تلقي خطوها مد البصر فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم‏.‏ وقيل‏:‏ رأى جبريل يوم نزل على رمكة وديق، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر‏.‏ ويقال‏:‏ إن أم السامري جعلته حين وضعته في غار خوفا من أن يقتله فرعون؛ فجاءه جبريل عليه السلام، فجعل كف السامري في فم السامري، فرضع العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذ‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏{‏الأعراف‏{‏‏.‏ ويقال‏:‏ إن السامري سمع كلام موسى عليه السلام، حيث عمل تمثالين من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في تابوت من حجر في النيل فأتى به الثور على قرنه، فتكلم السامري بذلك الكلام الذي سمعه من موسى، وألقى القبضة في جوف العجل فخار‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف ‏{‏بما لم تبصروا‏{‏ بالتاء على الخطاب‏.‏ الباقون بالياء على الخبر‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقبضت قبضة من أثر الرسول‏{‏ وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة ‏{‏فقبصت قبصة‏{‏ بصاد غير معجمة‏.‏ وروي عن الحسن ضم القاف من ‏{‏قبصة‏{‏ والصاد غير معجمة‏.‏ الباقون‏:‏ بالضاد المعجمة‏.‏ والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف الأصابع، ونحوهما الخضم والقضم، والقبضة بضم القاف القدر المقبوض؛ ذكره المهدوي‏.‏ ولم يذكر الجوهري ‏{‏قبصة‏{‏ بضم القاف والصاد غير معجمة، وإنما ذكر ‏{‏القبضة‏{‏ بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شيء؛ يقال‏:‏ أعطاه قبضة من سويق أو تمر أي كفا منه، وربما جاء بالفتح‏.‏ قال‏:‏ والقبض بكسر القاف والصاد غير المعجمة العدد الكثير من الناس؛ قال الكميت

لكم مسجدا الله المزوران والحصى لكم قبصه من بين أثرى وأقترى

‏{‏فنبذتها‏{‏ أي طرحتها في العجل‏.‏ ‏{‏وكذلك سولت لي نفسي‏{‏ أي زينته؛ قاله الأخفش‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ حدثتني نفسي‏.‏ والمعنى متقارب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 97 ‏:‏ 98 ‏)‏

‏{‏قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال فاذهب‏{‏ أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا ‏{‏فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس‏{‏ أي لا أمس ولا أمس طول الحياة‏.‏ فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تميم كرهط السامري وقوله ألا لا يريد السامري مساسا

قال الحسن جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة؛ وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ ابتلى بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك - لا مساس - وإن مس واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت‏.‏ ويقال‏:‏ إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى له‏:‏ لا تقتله فإنه سخي‏.‏ ويقال لما قال له موسى‏{‏فاذهب فإن في الحياة أن تقول لا مساس‏{‏ خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحشي، لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كالقائل لا مساس؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه؛ كما قال الشاعر‏:‏

حمال رايات بها قناعسا حتى تقول الأزد لا مسابسا

 مسألة‏:‏

هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك والثلاثة الذين خلفوا‏.‏ ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، وهو إرهاق إلى الخروج‏.‏ ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنى، وقد تقدم جميع هذا كله في موضعه، فلا معنى لإعادته‏.‏ والحمد لله وحده‏.‏ وقال هارون القارئ‏:‏ ولغة العرب لا مساس بكسر السين وفتح الميم، وقد تكلم النحويون فيه؛ فقال سيبويه‏:‏ هو مبني على الكسر كما يقال اضرب الرجل‏.‏ وقال أبو إسحاق‏:‏ لا مساس نفي وكسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث؛ تقول فعلت يا امرأة‏.‏ قال النحاس وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول‏:‏ إذا اعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبني، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف؛ لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء؛ فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات‏:‏ منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة؛ فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين؛ كما تقول اضرب الرجل‏.‏ ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمى امرأة بفرعون يبنيه، وهذا لا يقول أحد‏.‏ وقال الجوهري في الصحاح‏:‏ وأما قول العرب لا مساس مثال قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏لا مساس‏{‏‏.‏ ‏{‏وإن لك موعدا لن تخلفه‏{‏ يعني يوم القيامة‏.‏ والموعد مصدر؛ أي إن لك وعدا لعذابك‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏تخلفه‏{‏ بكسر اللام وله معنيان‏:‏ أحدهما‏:‏ ستأتيه ولن تجده مخلفا؛ كما تقول‏:‏ أحمدته أي وجدته محمودا‏.‏ والثاني‏:‏ على التهديد أي لا بد لك من أن تصير إليه‏.‏ والباقون بفتح اللام؛ بمعنى‏:‏ إن الله لن يخلفك إياه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وانظر إلى إلهك الذي ظللت عليه عاكفا‏{‏ أي دمت وأقمت عليه‏.‏ ‏{‏عاكفا‏{‏ أي ملازما؛ وأصله ظللت؛ قال‏:‏

خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن أليه شوس

أي أحسن‏.‏ وكذلك قرأ الأعمش بلامين على الأصل‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود ‏{‏ظلت‏{‏ بكسر الظاء‏.‏ يقال‏:‏ ظللت أفعل كذا إذا فعلته نهارا وظلت وظلت؛ فمن قال‏:‏ ظلت حذف اللام الأولى تخفيفا؛ ومن قال‏:‏ ظلت ألقى حركة اللام على الظاء‏.‏ ‏{‏لنحرقنه‏{‏ قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حرق يحرق‏.‏ وقرأ الحسن وغيره بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه‏.‏ وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي ‏{‏لنحرقنه‏{‏ بفتح النون وضم الراء خفيفة، من حرقت الشيء أحرقه حرقا بردته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم‏:‏ حرق نابه يحرقه ويحرقه أي سحقه حتى سمع له صريف؛ فمعنى هذه القراءة لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق‏.‏ والقراءتان الأوليان معناهما الحرق بالنار‏.‏ وقد يمكن جمع ذلك فيه؛ قال السدي‏:‏ ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح، ثم برد عظامه بالمبر حرقه وفي حرقه ابن مسعود ‏{‏لنذبحنه ثم لنحرقنه‏{‏ واللحم والدم إذا أحرقا صارا رمادا تذريته في اليم فأما الذهب فلا يصير رمادا وقيل عرف موسى ما صير به الذهب رمادا، وكان ذلك من آياته‏.‏ ومعنى ‏{‏لننسفنه‏{‏ لنطيرنه‏.‏ وقر أبو رجاء ‏{‏لننسفنه‏{‏ بضم السين لغتان، والنسف نفض الشيء ليذهب به الريح وهو التذرية، والمنسف ما ينسف به الطعام؛ وهو شيء متصوب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه؛ يقال‏:‏ اعزل النسافة وكل من الخالص‏.‏ ويقال‏:‏ أتانا فلان كأن لحيته منسف؛ حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم‏.‏ والمنسفة آلة يقلع بها البناء، ونسفت البناء نسفا قلعته، ونسفت البعير الكلأ ينسفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله، وانتسفت الشيء اقتلعته؛ عن أبي زيد‏.‏ ‏{‏إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما‏{‏ لا العجل؛ أي وسع كل شيء علمه؛ يفعل الفعل عن العلم؛ ونصب على التفسير‏.‏ وقرأ مجاهد وقتادة ‏{‏وسع كل شيء علما‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 99 ‏:‏ 101 ‏)‏

‏{‏كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا، من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا‏}‏

قوله تعالى‏{‏كذلك‏{‏ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف‏.‏ أي كما قصصنا عليك خبر موسى ‏{‏كذلك نقص عليك‏{‏ قصصا كذلك من أخبار ما قد سبق؛ ليكون تسلية لك، وليدل على صدقك‏.‏ ‏{‏وقد آتيناك من لدنا ذكرا‏{‏ يعني القرآن‏.‏ وسمي القرآن ذكرا؛ لما فيه من الذكر كما سمي الرسول ذكرا؛ الذكر كان ينزل عليه‏.‏ وقيل‏{‏أتيناك من لدنا ذكرا‏{‏ أي شرفا، كما قال تعالى‏{‏ وإنه لذكر لك‏}‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ أي شرف وتنويه باسمك‏.‏ ‏{‏من أعرض عنه‏{‏ أي القرآن فلم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه ‏{‏فإنه يحمل يوم القيامة وزرا‏{‏ أي إثما عظيما وحملا ثقيلا‏.‏ ‏{‏خالدين فيه‏{‏ يريد مقيمين فيه؛ أي في جزائه وجزاؤه جهنم‏.‏ ‏{‏وساء لهم يوم القيامة حملا‏{‏ يريد بئس الحمل حملوه يوم القيامة‏.‏ وقرأ داود بن رفيع‏{‏ فإنه يحمل‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 102 ‏:‏ 104 ‏)‏

‏{‏يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا، يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم ينفخ في الصور‏{‏ قراءة العامة ‏{‏ينفخ‏{‏ بضم الياء على الفعل المجهول‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق بنون مسمى الفاعل‏.‏ واستدل أبو عمرو بقوله تعالى‏{‏ونحشر المجرمين‏{‏ بنون‏.‏

وعن ابن هرمز ‏{‏ينفخ‏{‏ بفتح الياء أي ينفخ إسرافيل‏.‏ أبو عياض‏{‏في الصُّوَرِ‏{‏‏.‏ الباقون ‏{‏في الصُّورِ‏{‏ وقد تقدم‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏{‏ويحشر‏{‏ بضم الياء المجرمون رفعا بخلاف المصحف‏.‏ والباقون ‏{‏ونحشر المجرمين‏{‏ أي المشركين‏.‏ ‏{‏يومئذ زرقا‏{‏ حال من المجرمين، والزرق خلاف الكحل‏.‏ والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه؛ أي تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم‏.‏ وقال الكلبي والفراء‏{‏زرقا‏{‏ أي عميا‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ عطاشا قد ازرقت أعينهم من شدة العطش؛ وقاله الزجاج؛ قال‏:‏ لأن سواد العين يتغير ويزرق من العطش‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، يقال‏:‏ ابيضت عيني لطول انتظاري لكذا‏.‏ وقول خامس‏:‏ إن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف؛ قال الشاعر‏:‏

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر كما كل ضبي من اللؤم أزرق

يقال‏:‏ رجل أزرق العين، والمرأة زرقاء بينة الزرق‏.‏ والاسم الزرقة‏.‏ وقد زرقت عينه بالكسر وازرقت عينه ازرقاقا، وازرقت عينه ازريقاقا‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ قيل لابن عباس في قوله‏{‏ونحشر المجرمين يومئذ زرقا‏{‏ وقال في موضع آخر‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما‏}‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ فقال‏:‏ إن ليوم القيامة حالات؛ فحالة يكونون فيه زرقا، وحالة عميا‏.‏ ‏{‏يتخافتون بينهم‏{‏ أصل الخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته خفته‏.‏ يتسارون؛ قاله مجاهد؛ أي يقولون بعضهم لبعض في الموقف سرا‏.‏ ‏{‏إن لبثتم‏{‏ أي ما لبثتم يعني في الدنيا، وقيل في القبور ‏{‏إلا عشرا‏{‏ يريد عشر ليال‏.‏ وقيل‏:‏ أراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة؛ يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار - في قول ابن عباس - فيستقصرون تلك المدة‏.‏ أو مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة؛ ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه أنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا يعني لبثهم في الدنيا؛ عن قتادة؛ فالتقدير‏:‏ إلا مثل يوم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم من شدة هول المطلع نسوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا رأوه كيوم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بيوم لبثهم ما بين النفختين، أو لبثهم في القبور على ما تقدم‏.‏ ‏{‏وعشرا‏{‏ و‏{‏يوما‏{‏ منصوبان بـ ‏{‏لبثتم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 105 ‏:‏ 107 ‏)‏

‏{‏ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويسألونك عن الجبال‏{‏ أي عن حال الجبال يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فقل‏{‏ جاء هذا بفاء وكل سؤال في القرآن ‏{‏قل‏{‏ بغير فاء إلا هذا، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط وقد علم الله أنهم يسألونه عنها، فأجابهم قبل السؤال، وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال؛ فلذلك كان بغير فاء، وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد؛ فتفهمه‏.‏ ‏{‏ينسفها ربي نسفا‏{‏ يطيرها‏.‏ ‏{‏نسفا‏{‏ قال ابن الأعرابي وغيره‏:‏ يقلعها قلعا من أصولها ثم يصيرها رملا يسيل سيلا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا قال‏:‏ ولا يكون العهن من الصوف إلا المصبوغ، ثم كالهباء المنثور‏.‏ ‏{‏فيذرها‏{‏ أي يذر مواضعها ‏{‏قاعا صفصفا‏{‏ القاع الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء؛ قاله ابن الأعرابي‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ والقاع المستوي من الأرض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسر ما قبلها‏.‏ وقال الفراء‏:‏ القاع مستنقع الماء والصفصف القرعاء‏.‏ الكلبي‏:‏ هو الذي لا نبات فيه‏.‏ وقيل‏:‏ المستوي من الأرض كأنه على صف واحد في استوائه؛ قاله مجاهد‏.‏ والمعنى واحد في القاع والصفصف؛ فالقاع الموضع المنكشف، والصفصف المستوي الأملس‏.‏ وأنشد سيبويه

وكم دون بينك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها

و ‏{‏قاعا‏{‏ نصب على الحال والصفصف‏.‏ و‏{‏لا ترى‏{‏ في موضع الصفة‏.‏ ‏{‏فيها عوجا‏{‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ العوج التعوج في الفجاج‏.‏ والأمت النبك‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ الأمت النباك وهي التلال الصغار واحدها نبك؛ أي هي أرض مستوية انخفاض فيها ولا ارتفاع‏.‏ تقول‏:‏ امتلأ فما به أمت، وملأت القربة ملئا لا أمت فيه؛ أي لا استرخاء فيه‏.‏ والأمت في اللغة المكان المرتفع‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏عوجا‏{‏ ميلا‏.‏ قال‏:‏ والأمت الأثر مثل الشراك‏.‏ عنه أيضا ‏{‏عوجا‏{‏ ‏{‏ولا أمتا‏{‏ رابية‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ العوج ‏[‏الانخفاض‏]‏ والأمت الارتفاع‏.‏ وقال قتادة‏{‏عوجا‏{‏ صدعا‏.‏ ‏{‏ولا أمتا‏{‏ أي أكمة‏.‏ وقال يمانك الأمت الشقوق في الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ الأمت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل ويدق في مكان؛ حكاه الصولي‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الآية تدخل في باب الرقي؛ ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا ‏{‏بالبراريق‏{‏ واحدها ‏{‏بروقة‏{‏؛ تطلع في الجسد وخاصة في اليد‏:‏ تأخذ ثلاثة أعواد من تبن الشعير، يكون في طرف كل عود عقدة، تمر كل عقدة على الثآليل وتقرأ الآية مرة، ثم تدفن الأعواد في مكان ندي؛ تعفن وتعفن الثآليل فلا يبقى لها أثر؛ جربت ذلك نفسي وفي غيري فوجدته نافعا إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 108 ‏:‏ 110 ‏)‏

‏{‏يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما‏}‏

قوله تعالى‏{‏يومئذ يتبعون الداعي‏{‏ يريد إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور ‏{‏لا عوج له‏{‏ أي لا معدل لهم عنه؛ أي عن دعائه لا يزيغون ولا ينحرفون بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه‏.‏ وعلى هذا أكثر العلماء‏.‏ وقيل‏{‏لا عوج له‏{‏ أي لدعائه‏.‏ وقيل‏:‏ يتبعون الداعي اتباعا لا عوج له؛ فالمصدر مضمر؛ والمعنى‏:‏ يتبعون صوت الداعي للمحشر؛ نظيره‏{‏واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب‏}‏ق‏:‏ 41‏]‏ الآية‏.‏ وسيأتي‏.‏ ‏{‏وخشعت الأصوات‏{‏ أي ذلت وسكنت؛ عن ابن عباس قال‏:‏ لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع، فكل لسان ساكت هناك للهيبة‏.‏ ‏{‏للرحمن‏{‏ أي من أجله‏.‏ ‏{‏فلا تسمع إلا همسا‏{‏ الهمس الصوت الخفي؛ قاله مجاهد‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ الحس الخفي‏.‏ الحسن وابن جريج‏:‏ هو صوت وقع الأقدام بعضها على بعض إلى المحشر؛ ومنه قول الراجز‏:‏

وهن يمشين بنا هميسا

يعني صوت أخفاف الإبل في سيرها‏.‏ ويقال للأسد الهموس؛ لأنه يهمس في الظلمة؛ أي يطأ وطأ خفيا‏.‏ قال رؤية يصف نفسه بالشدة‏:‏

ليث يدق الأسد الهموسا والأقهبين الفيل والجاموسا

وهمس الطعام؛ أي مضغه وفوه منضم؛ قال الراجز‏:‏

لقد رأيت عجبا مذ أمسا عجائزا مثل السعالي خمسا

يأكلن ما أصنع همسا همسا

وقيل‏:‏ الهمس تحريك الشفة واللسان‏.‏ وقرأ أبي بن كعب ‏{‏فلا ينطقون إلا همسا‏{‏‏.‏ والمعنى متقارب؛ أي لا يسمع لهم نطق ولا كلام ولا صوت أقدام‏.‏ وبناء ‏{‏هـ م س‏{‏ أصله الخفاء كيفما تصرف؛ ومنه الحروف المهموسة، وهي عشرة يجمعها قولك‏{‏حثه شخص فسكت‏{‏ وإنما سمي الحرف مهموسا لأنه ضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس‏.‏

قوله تعالى‏{‏يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في موضع نصب على الاستثناء الخارج من الأول؛ أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن‏.‏ ‏{‏ورضي له قولا‏{‏ أي رضي قوله في الشفاعة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى، أي إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو قول لا إله إلا الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏{‏ أي من أمر الساعة‏.‏ ‏{‏وما خلفهم‏{‏ من أمر الدنيا قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ يعلم ما يصيرون إليه من ثواب أو عقاب ‏{‏وما خلفهم‏{‏ ما خلفوه وراءهم في الدنيا‏.‏ ثم قيل‏:‏ الآية عامة في جميع الخلق‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الذين يتبعون الداعي‏.‏ والحمد لله‏.‏ ‏{‏ولا يحيطون به علما‏{‏ الهاء في ‏{‏به‏{‏ لله تعالى؛ أي أحد لا يحيط به علما؛ إذ الإحاطة مشعرة بالحد ويتعالى الله عن التحديد‏.‏ وقيل‏:‏ تعود على العلم؛ أي أحد لا يحيط علما بما يعلمه الله‏.‏ وقال الطبري الضمير في ‏{‏أيديهم‏{‏ و‏{‏خلقهم‏{‏ و‏{‏يحيطون‏{‏ يعود على الملائكة؛ أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 111 - 112 ‏)‏

‏{‏وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما، ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما‏}‏

قوله تعالى‏{‏وعنت الوجوه‏{‏ أي ذلت وخضعت؛ قاله ابن الأعرابي وغيره‏.‏ ومنه قيل للأسير عان‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وقال أيضا‏:‏

وعنا له وجهي وخلقي كله في الساجدين لوجهه مشكورا

قال الجوهري عنا يعنو خضع وذل وأعناه غيره؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وعنت الوجوه للحي القيوم‏{‏‏.‏ ويقال أيضا‏:‏ عنا فهم فلان أسيرا؛ أي قام فيهم على إساره واحتبس‏.‏ وعناه غيره تعنية حبسه‏.‏ والعاني الأسير‏.‏ وقوم عناة ونسوة عوان‏.‏ وعنت أمور نزلت‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏عنت‏{‏ ذلت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ خشعت‏.‏ الماوردي‏:‏ والفرق بين الذل والخشوع - وإن تقارب معناهما - أن الذل أن يكون ذليل النفس، والخشوع أن يتذلل لذي طاعة‏.‏ وقال الكلبي ‏{‏عنت‏{‏ أي علمت‏.‏ عطية العوفي‏:‏ استسلمت‏.‏ وقال طلق بن حبيب‏:‏ إنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود‏.‏ النحاس‏{‏وعنت الوجوه‏{‏ في معناه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذا في الآخرة‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس ‏{‏وعنت الوجوه للحي القيوم‏{‏ قال‏:‏ الركوع والسجود؛ ومعنى ‏{‏عنت‏{‏ اللغة القهر والغلبة؛ ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة؛ قال الشاعر‏:‏

فما أخذوها عنوة عن مودة ولكن ضرب المشرفي استقالها

وقيل‏:‏ هو من العناء بمعنى التعب؛ وكنى عن الناس بالوجوه؛ لأن أثار الذل إنما تتبين في الوجه‏.‏ ‏{‏للحي القيوم‏{‏  وفي القيوم ثلاث تأويلات؛ أحدهما‏:‏ أنه القائم بتدبير الخلق‏.‏ الثاني‏:‏ أنه القائم على كل نفس بما كسبت‏.‏ الثالث‏:‏ أنه الدائم الذي لا يزول ولا يبيد‏.‏ وقد مضى في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ‏{‏وقد خاب من حمل ظلما‏{‏ أي خسر من حمل شركا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن‏{‏ لأن العمل لا يقبل من غير إيمان‏.‏

و ‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏من الصالحات‏{‏ للتبعيض؛ أي شيئا من الصالحات‏.‏ وقيل للجنس‏.‏ ‏{‏فلا يخاف‏{‏ قرأ ابن كثير ومجاهد وابن محيص ‏{‏يخف‏{‏ بالجزم جوابا لقوله‏{‏ومن يعمل‏{‏‏.‏ الباقون ‏{‏يخاف‏{‏ رفعا على الخبر؛ أي فهو لا يخاف؛ أو فإنه لا يخاف‏.‏ ‏{‏ظلما‏{‏ أي نقصا لثواب طاعته، ولا زيادة عليه في سيئاته‏.‏ ‏{‏ولا هضما‏{‏ بالانتقاص من حقه‏.‏ والهضم النقص والكسر؛ يقال‏:‏ هضمت ذلك من حقي أي حططته وتركته‏.‏ وهذ يهضم الطعام أي ينقص ثقله‏.‏ وامرأة هضيم الكشح ضامرة البطن‏.‏ الماوردي‏:‏ والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضم المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه؛ قال المتوكل الليثي‏:‏

إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المتهضم المظلوم

قال الجوهري ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم‏.‏ وتهضمه أي ظلمه واهتضمه إذا ظلمه وكسر عليه حقه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 113 ‏:‏ 114 ‏)‏

‏{‏وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا، فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا‏{‏ أي كما بينا لك في هذه السورة من البيان فكذلك جعلناه ‏{‏قرآنا عربيا‏{‏ أي بلغة العرب‏.‏ ‏{‏وصرفنا فيه من الوعيد‏{‏ أي بينا ما فيه من التخويف والتهديد والثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏لعلهم يتقون‏{‏ أي يخافون الله فيجتنبون معاصيه، ويحذرون عقابه‏.‏ ‏{‏أو يحدث لهم ذكرا‏{‏ أي موعظة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حذرا وورعا‏.‏ وقيل‏:‏ شرفا؛ فالذكر ها هنا بمعنى الشرف؛ كقول‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏الزخرف 44‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أي ليتذكروا العذاب الذي توعدوا به‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏أو نحدث‏{‏ بالنون؛ وروي عنه رفع الثاء وجزمها‏.‏

قوله تعالى‏{‏فتعالى الله الملك الحق‏{‏ لما عرف العباد عظيم نعمه، وإنزال القرآن نزه نفسه عن الأولاد والأنداد فقال‏{‏فتعالى الله‏{‏ أي جل الله الملك الحق؛ أي ذو الحق‏.‏ ‏{‏ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه‏{‏ علم نبيه كيف يتلقى القرآن‏.‏ قال ابن عباس كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل ‏{‏ولا تعجل بالقرآن‏{‏ وهذا كقوله‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏}‏القيامة‏:‏ 16‏]‏ على ما يأتي‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ لا تتله قبل أن تتبينه‏.‏ وقيل‏{‏ولا تعجل‏{‏ أي لا تسل إنزاله ‏{‏من قبل أن يقضى‏{‏ أي يأتيك ‏{‏وحيه‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله‏.‏ ‏{‏وقل رب زدني علما‏{‏ قال الحسن‏:‏ نزلت في رجل لطم وجه امرأته؛ فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها القصاص فنزل ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏النساء 34‏]‏ ولهذا قال‏{‏وقل رب زدني علما‏{‏ أي فهما؛ لأنه عليه السلام حكم بالقصاص وأبى الله ذلك‏.‏ وقرأ ابن مسعود وغيره‏{‏ من قبل أن نقضي‏{‏ بالنون وكسر الضاد ‏{‏وحيَه‏{‏ بالنصب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 115 ‏)‏

‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي‏{‏ قرأ الأعمش باختلاف عنه ‏{‏فنسي‏{‏ بإسكان الياء وله معنيان أحدهما‏:‏ ترك؛ أي ترك الأمر والعهد؛ وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ومنه ‏{‏نسوا الله فنسيهم‏{‏‏.‏ ‏[‏التوبة 67‏]‏‏.‏ و‏[‏وثانيهما‏]‏ قال ابن عباس ‏{‏نسي‏{‏ هنا من السهو والنسيان، وإنما أخذ الإنسان منه لأنه عهد إليه فنسي‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ نسى ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس‏.‏ وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم عليه السلام في ذلك الوقت مأخوذا بالنسيان، وأن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا‏.‏ ومعنى ‏{‏من قبل‏{‏ أي من قبل أن يأكل من الشجرة؛ لأنه نهى عنها‏.‏ والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي طاعة بني آدم الشيطان أمر قديم؛ أي إن نقض هؤلاء العهد فان آدم أيضا عهدنا إليه فنسي؛ حكاه القشيري وكذلك الطبري‏.‏ أي وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي، ويخالفوا رسلي، ويطيعوا إبليس فقدما فعل ذلك أبوهم آدم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا التأويل ضعيف، وذلك كون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء وآدم إنما عصى بتأويل، ففي هذا غضاضة عليه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما الظاهر في الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعجل بالقرآن، مثل له بنبي قبله عهد إليه فنسي فعوقب؛ ليكون أشد في التحذير، وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ والعهد ها هنا معنى الوصية؛ ‏{‏ونسي‏{‏ معناه ترك؛ ونسيان الذهول لا يمكن هنا؛ لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب‏.‏ والعزم المضي على المعتقد في أي شيء كان؛ وآدم عليه السلام قد كان يعتقد ألا يأكل من الشجرة لكن لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده‏.‏ والشيء الذي عهد إلى آدم هو ألا يأكل من الشجرة، وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له‏.‏ واختلف في معنى قوله‏{‏ولم نجد له عزما‏{‏ فقال ابن عباس وقتادة‏:‏ لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، ومواظبة على التزام الأمر‏.‏ قال النحاس وكذلك هو في اللغة؛ يقال‏:‏ لفلان عزم أي صبر وثبات على التحفظ من المعاصي حتى يسلم منها، ومنه ‏{‏فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل‏}‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وعن ابن عباس أيضا وعطية العوفي‏:‏ حفظا لما أمر به؛ أي لم يتحفظ مما نهيته حتى نسي وذهب عن علم ذلك بترك الاستدلال؛ وذلك أن إبليس قال له‏:‏ أي إن أكلتها خلدت في الجنة يعني عين تلك الشجرة، فلم يطعه فدعاه إلى نظير تلك الشجرة مما دخل في عموم النهي وكان يجب أن يستدل عليه فلم يفعل، وظن أنها لم تدخل في النهي فأكلها تأويلا، ولا يكون ناسيا للشيء من يعلم أنه معصية‏.‏ وقال ابن زيد‏{‏عزما‏{‏ محافظة على أمر الله‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ عزيمة أمر‏.‏ ابن كيسان‏:‏ إصرارا ولا إضمارا للعود إلى الذنب‏.‏ قال القشيري‏:‏ والأول أقرب إلى تأويل الكلام؛ ولهذا قال قومك آدم لم يكن من أولي العزم من الرسل؛ لأن الله تعالى قال‏{‏ولم نجد له عزما‏{‏‏.‏ وقال المعظم‏:‏ كان الرسل أولو العزم، وفي الخبر ‏{‏ما من نبي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ما خلا يحيى بن زكريا‏{‏ فلو خرج آدم بسبب خطيئته من جملة أولي العزم لخرج جميع الأنبياء سوى يحيى‏.‏ وقد قال أبو أمامة‏:‏ أن أحلام بني آدم جمعت منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة، ووضعت في كفة ميزان، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم؛ وقد قال الله تبارك وتعالى‏{‏ولم نجد له عزما‏{‏

 الآية رقم ‏(‏ 116 ‏:‏ 119 ‏)‏

‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى، فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى‏{‏ تقدم‏.‏ ‏{‏فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما‏{‏ نهي؛ ومجازه‏:‏ لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما ‏{‏من الجنة‏{‏ ‏{‏فتشقى‏{‏ يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد؛ وليقل‏:‏ فتشقيا لأن المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود‏.‏ وأيضا لما كان الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص‏.‏ وقيل‏:‏ الإخراج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله ‏{‏إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى‏{‏ أي في الجنة ‏{‏وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى‏{‏ فأعلمه أن له في الجنة هذا كله‏:‏ الكسوة والطعام والشراب والمسكن؛ وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس؛ لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة‏.‏ وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان‏:‏ يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج؛ فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج، فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية‏.‏ وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة‏:‏ الطعام والشراب والكسوة والمسكن؛ فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها؛ فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الأربعة فلا بد لها منها؛ لأن بها إقامة المهجة‏.‏ قال الحسن المراد بقول‏{‏فتشقى‏{‏ شقاء الدنيا، لا يرى ابن آدم إلا ناصبا‏.‏ وقال الفراء هو أن يأكل من كد يديه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه الذي قال الله تبارك وتعالى‏.‏ وقيل‏:‏ لما أهبط من الجنة كان من أول شقائه أن جبريل أنزل عليه حبات من الجنة؛ فقال يا آدم ازرع هذا، فحرث وزرع، ثم حصد ثم درس ثم نقى ثم طحن ثم عجن ثم خبز، ثم جلس ليأكل بعد التعب؛ فتدحرج رغيفه من يده حتى صار أسفل الجبل، وجرى وراءه آدم حتى تعب وقد عرق جبينه، قال‏:‏ يا آدم فكذلك رزقك بالتعب والشقاء، ورزق ولدك من بعدك ما كنت في الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن لك ألا تجوع فيها‏{‏ أي في الجنة ‏{‏ولا تعرى‏{‏‏.‏ ‏{‏وأنك لا تظمأ فيها‏{‏ أي لا تعطش‏.‏ والظمأ العطش‏.‏ ‏{‏ولا تضحى‏{‏ أي تبرز للشمس فتجد حرها‏.‏ إذ ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ نهار الجنة هكذا‏:‏ وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ ضحا الطريق يضحو ضحوا إذا بدا لك وظهر‏.‏ وضحيت وضحيت ‏{‏بالكسر‏{‏ ضحا عرقت‏.‏ وضحيت أيضا للشمس ضحاء ممدود برزت وضحيت ‏{‏بالفتح‏{‏ مثله، والمستقبل أضحى في اللغتين جميعا؛ قال عمر بن أبي ربيعة

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر

في الحديث أن ابن عمر رأى رجلا محرما قد استظل، فقال‏:‏ أضح لمن أحرمت له‏.‏ هكذا يرويه المحدثون بفتح الألف وكسر الحاء من أضحيت‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ إنما هو أضح لمن أحرمت له؛ بكسر الألف وفتح الحاء من ضحيت أضحى؛ لأنه أمره بالبروز للشمس؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى‏{‏ وأنشد‏:‏

ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا

وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما في رواية أبو بكر عنه ‏{‏وأنك‏{‏ بفتح الهمزة عطفا على ‏{‏ألا تجوع‏{‏‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الموضع، والمعنى‏:‏ ولك أنك لا تظمأ فيها‏.‏ الباقون بالكسر على الاستئناف، أو على العطف على ‏{‏إن لك‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏120 ‏:‏ 122 ‏)‏

‏{‏فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى‏}‏

قوله تعالى‏{‏فوسوس إليه الشيطان‏{‏ تقدم‏.‏ ‏{‏قال‏{‏ يعني الشيطان ‏{‏يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى‏{‏ وهذا يدل على المشافهة، وأنه دخل الجنة في جوف الحية على ما تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ‏{‏فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة‏{‏ تقدم‏.‏

وقال الفراء‏{‏وطفقا‏{‏ في العربية أقبلا؛ قال وقيل‏:‏ جعل يلصقان عليهما ورق التين‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعصى‏{‏ تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏ في ذنوب الأنبياء‏.‏ وقال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال‏:‏ إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس؛ فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة‏.‏ قال‏:‏ وهذا هو الحق ولقد أحسن الجنيد حيث قال‏:‏ حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم؛ صلوات الله عليه وسلامه‏.‏

قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ لا يجوز لأحد منها اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه، أو قول نبيه، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا، المماثلين لنا، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له‏.‏

قلت‏:‏ وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز، فالإخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه من وصف شيئا من ذات الله عز وجل مثل قوله‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة‏}‏المائدة 64‏]‏ فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده، وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه؛ لأنه شبه الله تعالى بنفسه‏.‏

روى الأئمة واللفظ ‏[‏المسلم‏]‏ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏{‏احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى اصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى‏:‏ أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا‏{‏ قال المهلب قوله‏{‏فحج آدم موسى‏{‏ أي غلبه بالحجة‏.‏ قال الليث بن سعد إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له، ولذلك قال آدم‏:‏ أنت موسى الذي أتاك الله التوراة، وفيها علم كل شيء، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية، وقدر علي التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عني أفتلومني أنت والله لا يلومني وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له‏:‏ إن عثمان فر يوم أحد؛ فقال ابن عمر‏:‏ ما على عثمان ذنب لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله‏{‏ولقد عفا الله عنهم‏}‏آل عمران 155‏]‏ وقد قيل‏:‏ إن آدم عليه السلام أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين‏{‏وصاحبهما في الدنيا معروفا‏}‏لقمان 5 1‏]‏ ولهذا إن إبراهيم عليه السلام لما قال ل أبوه وهو كافر‏{‏لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا‏.‏ قال سلام عليك‏}‏مريم‏:‏ 46‏]‏ فكيف بأب هو نبي قد اجتباه ربه وتاب عليه وهدى‏.‏

وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة؛ فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن يحتجا بمثل حجة آدم، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله علي ذلك؛ والأمة مجمعة حلى جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فغوى‏{‏ أي ففسد عليه عيشه، حكاه النقاش واختاره القشيري‏.‏ وسمعت شيخنا الأستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي يقولك ‏{‏فغوى‏{‏ ففسد عيشه بنزول إلى الدنيا، والغي الفساد؛ وهو تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول‏{‏فغوى‏{‏ معناه ضل؛ من الغي الذي هو ضد الرشد‏.‏ وقيل معناه جهل موضع رشده؛ أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها؛ والغي الجهل‏.‏ وعن بعضهم ‏{‏فغوى‏{‏ فبشم من كثرة الأكل؛ الزمخشري وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا؛ فيقول في فني وبقي وهم بنو طي تفسير خبيث‏.‏

قال القشيري أبو نصر قال قوم يقال‏:‏ عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو، كما أن من خاط مرة يقال له‏:‏ خاط ولا يقال له خياط ما لم يتكرر منه الخياطة‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز للسيد أن يطلق في عبده عند معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه، وهذا تكلف؛ وما أضيف من هذا إلى الأنبياء فإما أن تكون صغائر، أو الأولى، أو قبل النبوة‏.‏

قلت‏:‏ هذا حسن‏.‏ قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى‏:‏ كان هذا من آدم قبل النبوة، ‏{‏ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى‏{‏ فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا؛ لأن قبل النبوة لا شرع علينا تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب‏.‏ وهذا نفيس والله أعلم‏.‏